الرد على اعتراضات المعترضين على الخطبة الإلهامية
1ـ يرى أن الخطبة الإلهامية ما دامت لم تُنشر في كتاب التذكرة الذي طُبع بالأوردو أولا إذن هي ليست وحيا ، لأن هذا الكتاب كان يحوي إلهامات الميرزا ( المسيح الموعود عليه السلام )
ولكن هذا الكلام خطأ تماماً ، لأن وحي الخطبة الإلهامية لم يكن الوحيد غير الموجود في كتاب التذكرة ، بل إن هناك العديد من الوحي ، والذي لا يقل أهمية وروعة وقوة وشوكة عن الخطبة الإلهامية ، ومع ذلك لم يُنشر في التذكرة ، فليست التذكرة مقياسا ، فنقول إن ما يُنشر فيها يكون وحيا ، وما لم يُنشر لا يكون وحيا!
إن هناك العديد من آيات القرآن الكريم التي لم يجدوها عند جمعه إلا عند صحابيٍّ واحد ، ولم يتخذ أحدٌ ذلك دليلا على التشكيك في كون هذه الآيات من القرآن الكريم ، فالصحابة كانوا يحفظونه ، ويتلونه في الصلوات ، كذلك الخطبة الإلهامية ، لم يكن الاعتناء بتدوينها وكتابتها مبكرا بقدر ما كان صحابة المسيح الموعود عليه السلام يحفظونها في صدورهم
2 ـ يكرر بشكل ملحوظ جملة ( بشكل واضح جدا ) أي أنه يريد أن يكون كل شيء واضحا جدا ، فكيف يكون إيمان مع هذا الوضوح (جدا) الذي يطلبه ، ألا يعلم أن الإيمان الحقيقيَّ يتطلب شيئا من الغموض وعدم وضوح الرؤيا حتى يصح أن يُسمَّى إيماناً ؟!
3 ـ قوله : ( لو كانت هذه الخطبة التي هي خمس صفحات بحجم كذا وبخط كذا فيها ألفان ومئة كلمة ، لو كانت هي التي ألقاها مرزا غلام أحمد كما هي الآن لعُدت معجزة ليس في تاريخه هو وحده ، إنما في تاريخ العالم ، لأنه لم يتلق أي نبي ، لم نسمع أن تلقى أي نبي وحيا بلغة أخرى من الله تعالى بهذا الطول وبهذه الطريقة ) والحق أنني أرى أن ما يراه المعترض اعتراضا إنما هو آية عظيمة ودليل لا يُمارَى فيه ، لأنه من سور القرآن الكريم ما يضارع الخطبة الإلهامية طولا ، بل ما يزيد عن أضعافها ، بل وخمسة أضعافها ما نزل على الرسول (ص) جملة واحدة ، مثل سوَر ( الأنعام [22 صفحة]، الأعراف [25 صفحة ]، التوبة [20 صفحة ]، الكهف [11 صفحة ]، والفتح [ أربع صفحات ] ، والصف [ صفحتان ] والمرسلات [ صفحتان ] )
وإليك بعض الأحاديث التي تؤكد نزول تلك السور على الرسول جملة واحدة ، والتي وعاها رسول الله وحفظها وأخذها عنه الصحابة المكرَّمون ، فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال ( نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملةً حولها سبعون ألف ملك )
وروى الطبراني في الكبير عن أسماء بنت يزيد قالت ( نزلت الأنعام على النبي (ص) جملة واحدة ) وحسنه الحافظ في نتائج الأفكار
وروى النحاس في الناسخ والمنسوخ بسند جيد عن ابن عباس قال ( سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة ، فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة )
أما عن سورة التوبة روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال ( آخر سورة نزلت كاملةً براءة ، ثم رواه البخاريّ أيضا بلفظ آخر ، ونرى أنه لا داعي للمزيد خشية الإطالة رغم وجود النصوص التي تؤكد ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ نزول هذه السور سالفة الذكر جملة واحدةً ، فإذا كان الأمر كذلك ، وقد سبق أن تلقى الرسول (ص) سورا قرآنية عديدة تصل الواحدة منها حتى خمساً وعشرين صفحةً ، فمن أين يُستساغ الاعتراض على إلهام لا يزيد بحال عن خمس صفحات ، فإذا كان المعترض يرى أن إلهاما بحجم خمس صفحات هو فوق مستوى الإدراك البشري ، والذاكرة الحافظة الواعية لهم ، فليته يتحفنا باعتراضاته على استيعاب النبيّ (ص) لسور عديدة نزلت عليه جملةً واحدةً تصل الواحدة منها إلى خمس وعشرين صفحة كما رأينا !
أما إن كان لا يزال متمسكا بقوله أنه يعترض على كونها بهذا الطول بلغة أخرى غير لغته الأصلية ، وأنه يريد أن يرى مثالا لذلك عند أي نبيٍّ آخر فإنه كمن يطلب لبن العصفور أو الكبريت الأحمر أو العنقاء والغول والخِلّ الوفيّ ، لأنه يعلم تماماً أن هذا لم يكن لأي نبيٍّ من قبل ، فلم يكن نبيٌّ يخاطَب إلا بلسان قومه ، فكيف يطلب منا نحن أن نقدم له إلهامات نبيٍّ بلغة أخرى وهو ما لم يحدث في التاريخ بشهادة القرآن الكريم
أما المسيح الموعود فخاطبه الله تعالى بلغات متعددة لأن تلك اللغات هي لسان قومه أيضاً ، وليكون دليلا بارزاً للعيان أن هؤلاء الذين يتكلمون بهذه اللغات إنما هم قومه لا محالة ، فخاطبه الله بلسان الهند لأنها وطنه الذي نشأ فيه ، فهم على ذلك قومه ، وخاطبه بلسان فارس لأنهم قومه الذي انحدر من سلالتهم ، فهم بذلك قومه ، وخاطبه بلسان العرب لأنهم قومه الذين يلتقي معهم بانتسابه لفاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها وصلى وسلم على أبيها المصطفى ساكن المدينة المنورة
ثم إن قوله ( بهذه الطريقة ) يقصد بهذا الجمال والروعة والفصاحة والبلاغة والبيان ، ولكن منعه شيطانه أن ينطق بها كما منع الفرعون عند ابتلاع البحر له ورؤية الآيات أن يقول آمنت بالله ، إنما قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
4 ـ سؤاله عن النسختين الأوليين بخط نور الدين وعبد الكريم يكافئه سؤال سائل : أين النصوص القرآنية الأولى بخط كُتاب الوحي حال نزوله من السماء ؟ وأين نُسخ الأحاديث الأولى بخط من خطتها أيديهم لأول مرة ، وأين نُسخ الكتب الأولى التي كتبها مؤلفوها بخط أيديهم ، لنقارنها بما هو موجود بين أيدينا من الكتب المنسوبة إليهم حتى نتيقن أنها هي هي ؟ الجواب على هؤلاء هو عينه الجواب عليه
5ـ يعترض على قول المسيح الموعود ( وإني عُلمتها إلهاما من ربي وكانت آية ) ويضيف قائلا : (لم يقل تلقيتها وحيا )، ويبدو أنه لم يمر على قول الله تعالى ( الذي علم بالقلم ) ، ولا على قوله تعالى ( علم الإنسان ما لم يعلم ) كان تعليم الله للإنسان في هاتين الآيتين وفي غيرهما بالإلهام ، ولا يختلف عاقلان على كون هذا التعليم إلهاما أو وحياً ، وهل هناك ما يمنع أن يعلم الله الإنسان عن طريق الوحي والإلهام ، وإن كان ذلك كذلك ، فكيف كان يعلم الله النبيين والمرسلين ويحدث المحدَّثين ويلهم الملهَمين إذن ؟ ففيم المماحكة ؟
6 ـ يعترض على قول المسيح الموعود ( وإنها طُبع في مطبعة ضياء الإسلام ) (وإنها طُبعَ ) ويرى أنه تعبير خاطئ لأن الضمير مؤنث والفعل مذكر ، ويبدو أنه لم يقرأ يوما قوله تعالى ( وإنه لتذكرة ) ، وربما هو لا يعرف أن الضمير قد يعود على اللفظ وقد يعود على المعنى ، ويكون عودُه على المعنى هنا على تقدير ( الكتاب ) أي ( وإن الكتاب طُبع )
7 ـ يعترض على التعبير التالي للمسيح الموعود عليه السلام ( يا عباد الله فكروا في يومكم هذا يوم الأضحى ، فإنه أُودِع أسرارا لأولي النُّهى ، وتعلمون أن في هذا اليوم يُضحَّى بكثير من العجماوات ) ويرى أن تكرار ذكر جملة ( هذا اليوم ) إشارةً إلى يوم الأضحى نوع من الضعف البيانيّ الفاحش ، وكان يجب على ( الكاتب ) أن يكني عن إعادة ذكره بضمير ، مثلا يقول ( وإنه ) ، وربما إنه لا يدري أن إعادة ذكر الإسم يحمل تأكيداً عليه وإشارةً على أهميته ، وربما أنه لا يعرف أن اللغة العربية فيها قاعدة لغوية هامة هي التوكيد اللفظي ، وأن التوكيد اللفظي هذا يكون بإعادة وتكرار اللفظ نفسه أكثر من مرة ، إذن فتكرار الألفاظ في العربية يُقعَّد له القواعد ، وإضافة إلى ذلك والشيء الأهم أن القرآن الكريم يحمل في صفحاته العديد من أشباه هذا التعبير ، ولم يكن لعاقل أن يتجرأ عليه ويدعي أنه من قبيل التكرار المملّ كما يدعي المعترض ، وهو قوله تعالى ( الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة ) (القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ) ( قال هذا رحمة من (ربي) فإذا جاء وعد (ربي) جعله دكاء وكان وعد (ربي) حقاً ) ، فإذا سوَّغ لنفسه الاعتراض على شبه تكرار لفظة ـ وليس تكراراً كاملاً ـ عند المسيح الموعود ، بربما يسوِّغ الاعتراض على القرآن الكريم في مثل الآيات التي ذكرناه ، وما ذلك عنه ببعيد
8 ـ يعترض على قول المسيح الموعود إلهاماً من ربه ( وتنحر آبال من الجمال وخناطيل من البقرات وتُذبح أقاطيع من الغنم ابتغاء مرضاة رب الكائنات ) معترضا قائلا :( وماذا نستفيد ؟ تستطيع أن تعبر عن كلمة واحدة بدل هذا كله ) ، بالله عليكم هل هذا اعتراض ؟ يبتغي أن يحول سحر البيان وتعداد الحالات وألوان الأضحيات وروعة التصوير الأدبيّ الراقي الذي يأخذ السامع والقارئ واضعاً إياهم في الصورة الفنيىة المُصاغة أروع صياغة ، ويحول ذلك كلَّه إلى مسخ مشوَّه في كلمة واحدة ، إنه رجل يقول : وما الحاجة إلى قرص الشمس الهائل ذلك كله ما دام لا ينفذ إلى نافذتي منه إلا بضع أشعة ، كانت تلك الأشعة التي تنفذ إلى غرفتي كافية ! فلماذا هذا الضياء المنتشر ـ عبثا ـ في كل مكان ؟ ظاناً أن الشمس إنما خُلقت له وحده ، فيكفيه منها شعاع ، كذلك يظن الخطبة الإلهامية قد أُلهم المسيح الموعود بها له هو وحده ، فينبغي أن تكون ـ فقط ـ على قدر علمه وبيانه ووفق قدرته على التذوق ، وربما اعترض على قوله تعالى ( عسى ربه إن طلَّقكن أن يُبدله أزواجاً خيراً منكنَّ مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ ثيباتٍ وأبكاراً ) ويقول لم كل تلك الصفات الثمانية ، أولم يكن سبحانه قادراً على التعبير بلفظٍ واحدٍ يجمع ذلك كله ؟! ، كذلك قوله تعالى ( لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة ) ويقول : لم يكن هناك داعٍ لتكرار قوله تعالى (ناصيةٍ ) وكان يجب أن يكنيَ عنها بضمير ، ثم يقول : وما الداعي لذكر الصفتين (كاذبة خاطئة) ؟ فكانت صفة واحدة كافية
وإن ذلك ذكَّرني بمزحة ، إذ قال أحد المصلين للإمام : لقد أطلت التلاوة أيها الشيخ في صلاتك ، فردَّ عليه الشيخ متعجبا : كيف أطلت ولم أقرأ إلا آية واحدة فيها كلمة واحدة ( مدهامتان ) ، فرد عليه الرجل : إذن أطلت ، أما كانت تكفي مدهامةٌ واحدة ؟!
9 ـ يعترض على قول المسيح الموعود إلهاماً من ربه ( وظني أن الأضاحي في شريعتنا الغراء قد خرجت من حد الإحصاء ) ، ويرى أن التعبير كان من الواجب أن يكون ( خرجت عن ) ، وفي الحقيقة أنا أتعجب من اعتراضه هذا ، لأن الفعل خرج يتعدى بحرف الجر (من) أكثر من تعديه بحرف الجر(عن ) كثيرا جدا ، ولا يخفى على القراء القول بأن فلاناً : خرج من الدار أو من البيت أو من الأرض إلى إرض أخرى ، أو خرج من جماعة المؤمنين ، أو من كذا أو من كذا إلى ما لا نهاية ، ولا نجد التعبير (خرج عن ) إلا نادراً في حكم المعدوم ، كذلك معلوم أن التعبير (خرج من ) أبلغ بكثير جدا من التعبير (خرج عن ) ، إذ إن ( خرج من ) تعني أنه كان جزءاً أصيلا منهم ثم انفصل عنهم ، أما التعبير (خرج عن ) فإنه لا يؤدي هذا المعنى ، إذ معناه أن الخارج عنهم لم يكن جزءأ منهم إنما كان مجاورا لهم ، أو كان دخيلا عليهم ، فيقال : خرج عنهم بعد أن أغار عليهم ، ولأنه تعبير نادرٌ نجده مغلوبا بالتعبير الأغلب ( خرج من ) الذي لا يخفى على القاصي والداني ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اخرجوا من دياركم ) وقوله تعالى ( قال اخرج منها مذؤوما مدحورا ) ( قال فاخرج منها فإنك رجيم ) فمن أين له أن التعبير (خرج عن ) هو الأولى والأفضل والأصح كما يزعم ؟!
10 ـ يعترض على قول المسيح الموعود ( وبلغت كثرة الذبائح إلى حد غُطي به وجه الأرض من الدماء ، حتى لو جُمعت دماؤها وأُريد إجراؤها لجرت منها الأنهار وسالت البحار وفاضت الغُدْر والأودية الكبار ) ويقول معترضا : ( انظروا هنا التكرار ؟) وأنا أقول : أين هذا التكرار ؟ لا يوجد تكرار بالمرة ، إنه يقول أن الدماء غطت وجه الأرض ، ثم يقول أن هذه الدماء لو جُمعت من وجه الأرض هذا ولم تبق فيه ، وكان وجه الأرض قد خلا من الدماء ، إنما سُكبت في الأنهار ، لغرض ماذا ؟ لغرض إجرائها ، أي جعلها تسيل وتجري ، وهذا لن يتحقق إلا إذا صُبت في وادٍ ذي شاطئين ، وكلما كان شاطئا الوادي متقاربين كان الجريان أسرع ، ثم إذا فاضت الأنهار التي هي ضيقة محدودة انتقلت الدماء إلى مجال أوسع وأرحب وهو البحار ، وهذا الترتيب ينسف اعتراض المعترض الذي يدَّعي أن التعبير ينتقل من الكبير إلى الصغير ، ومن الواسع إلى الضيق ، وهذا كذب واضح لذي عينين وقليل من نظر ، فلم ينتقل المسيح الموعود عليه السلام من الكبير إلى الصغير كما يزعم المعترض ، وإنما انتقل من النهر إلى البحر ، إلا إذا كان مدى علم المعترض أن الأنهار أعظم سعة ومساحة من البحار
ثم يقول المسيح الموعود إلهاماً من ربه ( ومن الغُدْر إلى الأودية الكبار ) ، إنها نفس القاعدة الأولى ، التي ينتقل فيها من الضيق إلى الواسع انتقاله من النهر إلى البحر ، وهنا ينهج ذات النهج وينتقل من الغدير إلى الوادي ، إلا إذا كان منتهى علوم المعترض أن الغدير أوسع وأفسح واعظم مساحةً من الوادي ! إنه قرص الشمس الذي يحاول المعترض حجبَه بغربال ادعاءاته وتلفيقاته وكذباته وسوء ظنه ! وا أسفَى !
وربما لا يعلم أن السيرة التي سار عليها التعبير في الخطبة الإلهامية وضعاً من الله تعالى ، هي ذاتها السيرة التي يسيِّر الله تعالى عليها العالم المنظور طبعاً ، أي أننا نشاهد ذلك في الطبيعة من حولنا ، إذ إنه عندما تفيض الأنهار ، فليس لها من سبيل إلا أن تسيل إلى البحار ، وإذا فاضت مياه السيول في الغُدْر الصغار ، فإن هذا الماء ينتقل بالتبعية ليصب في الأودية الكبار
يا لها من اعتراضات سيئة سخيفة!
11 ـ ثم يعترض على قول المسيح الموعود عليه السلام إلهاما من ربه ( فلأجل ذلك سُمِّيَ الضحايا قُرباناً ) ( فلأجل ذلك) ، ويرى أنها كان يجب أن تكون ( لذلك) ، ربما أنه لا يعرف القاعدة اللغوية التي تقول أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى ، وأن التعبير بثلاث كلمات بدلا من كلمة واحدة له مغزىً عميق لا يدركه ، وهو أن الأسباب التي من أجلها سُميت الضحايا قربانا كثيرة متعددة رائعة عظيمة يجب الالتفات إليها ، وهو يلفت إليها هنا بتعدد الكلمات الدالة عليها ، فيعدد الكلمات ليلفت الانتباه إلى تعدد الفوائد ، إنما لو عبر عنها بكلمة واحدة ربما تاهت تلك الكلمة ولم يُلتَفت إليها أثناء القراءة ، أو دلَّ ذلك على نُدرة الفوائد التي تنطوي عليها
أضف إلى ذلك ما هو أشد وأنكى ، وهو أن هذا التعبير هو عين التعبير القرآني ، وأن المعترض إن كان مصرا على الاعتراض على هذا التعبير ، فليعترض على قوله تعالى من سورة المائدة ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ) ، ويقول لله تعالى والعياذ بالله : ما هذا التطويل المُملّ ، أما كانت كلمة واحدة تكفي ؟! لماذا لم تكن الآية هكذا ( لذلك كتبنا على بني إسرائيل )
12 ـ ثم يعترض على القول ( سُمِّيَ الضحايا) ، ويقول يجب أن تكون ( سُميت ) ، وقد فصلنا القول في شيء شبيه بذلك من قبل ، ونضيف : الأصل في اللغة التذكير ، والتأنيث طارئ عليه ، لأن أصل الغرض من الحياة النبوة ، والنبوة للرجال ، ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ) ، ثم إن الضحايا تُعامل معاملة المؤنث مجازاً ، لأنها مؤنث مجازي ، ويجوز أن تُذكَّر بلا أدنى غضاضة ، وبلا أي سبب يسأل عنه سائل ، والمؤنث الحقيقيّ هو الذي يلد أو يبيض ، أما المؤنث المجازيّ الذي يعلمه تلاميذ المرحلة الابتدائية ، هو الذي لا يلد ولا يبيض ، ومع ذلك يعامل معاملة المؤنث لغرض بلاغيٍّ آخر ، وما دام لفظ الضحايا يحوي في داخله ما لا يلد ولا يبيض ، فتأنيثه جائز ولا يُسأل عن السبب ، ولا يُعترض عليه
13 ـ يعترض على قول المسيح الموعود عن الضحايا ( إنها من أعظم نُسك الشريعة ) ، وربما أنه لم يضع في حسبانه اللفظ ( من ) التي هي تبعيضية ، والتي لا تفيد أن الأضاحي هي أعظم نُسك الشريعة على الإطلاق ، إنما هي ـ فقط ـ جزء واحد من أجزاء كثيرة عظيمة ، وما دام هذا التعبير لم يُخرِج الصلاة والزكاة والصيام والحج فضلا عن الشهادتين من الوصف بالعظمة ، فهو فقط يضيف إليها ذبح الضحايا ، لماذا إذن يدلِّس المعترض ويريد أن يُلبِّس على الناس زاعما أن النص يفيد أن الأضحية هي أعظم النُّسك على الإطلاق ؟!
ثم إن اعتبار الأضحية من أعظم نُسك الشريعة ليس بالأمر المستبعَد أو المُستغرَب ، أو الذي يُعترَض عليه ، لأنها تؤدي إلى المقصود التي تسعى كافة نُسكِ الشريعة إلى تحقيقه ، وهو ذبح النفس الأمارة وإقامة النفس اللوامة ثم المطمئنة مقامها ، وليس من غايةٍ من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج سوى ذلك ، فكيف لا تكون الأضحية من أعظم نُسك الشريعة وقد جمعت الغايات منها جميعاً ؟!
إن هذا لشيء عُجاب !
إن المسيح الموعود الذي لفت الأنظار لمثل هذه النكات الرائعة ، لهو جدير بالاحترام والتبجيل ورفع القبعة والانحناء له تعظيما وتكريماً ، إنه رجل يستحق أن تُؤدَّى له التحية التي تليق بمقامه على وجه ـ هو ـ أفضل مما يؤدي الجنود التحية العسكرية لقادتهم العظماء
14 ـ ثم يقول : ( ثم من قال لك أنها سُميت نسيكة لأنها من أعظم النُّسك ) ، هو لا يريد أن يستوعب أن هذا إلهام الله ، وأن هذا ليس كلام المسيح الموعود عليه السلام ، إنما كلام الله نفسه ، ويحاول أن يُخرج لفظ النسيكة عن معناه الذي أراده المسيح الموعود في هذه العبارة ، ويدلس على الناس أن معناها ليس إلا سبيكة الفضة الخالصة ، ولبيان هذا التدليس ، إليك ما قاله ابن منظور في معجم لسان العرب في سطره الأول : ( النُّسُك العبادة والطاعة وكل ما تُقُرب به إِلى الله تعالى وقيل لثعلب هل يسمى الصوم نُسُكاً ؟ فقال كل حق لله عزَّ وجل يسمى نُسُكاً )
قد بات واضحا أن الرجل يدلس ، وغمره التدليس ، حتى أصبح يتوهم أنه لا يدلس إنما يقول عين الصواب والحق ، بل وربما يسمي ما يقوم به أعظم الجهاد !
وربما هو لا يدري أن ( نسيكة ) كانت في الأصل ( نسيك ) وهي صيغة مبالغة على وزن ( فعيل ) ، وصيغ المبالغة من الصيَغ الدالة على فرط توافر تلك الصفة في الشيء الذي يَتَسمَّى بها لإرادة معنى التعظيم ، ثم أُضِيف لها حرف التاء المربوطة ( نسيك ة ) لإرادة التأنيث اللفظيّ من جهة ، والزيادة في التعظيم أيضاً من جهة أخرى
أبعد ذلك كله لا تكون الأضحية التي هي النسيكة من أعظم النُّسك ؟!
15 ـ يعترض على عبارة ( ويُعطَى له علم الأولين ) ويقول أن هذا التعبير غير صحيح ، وأن الأَوْلى أن يُقال ( ويُعطى علمَ الأولين) دون ذكر كلمة (له) ، والحق أنني لا أعرف سبباً لهذا الاعتراض ، ولا أجد له علةً يتكئ عليها ، إذ إن الفعل المتعدي لمفعولين مثل الفعل (أعطى)الوارد في هذا النص ، يمكن أن يُعوَّض عن أحد المفعولين بجار ومجرور ، فنقول ( أعطاه ديناراً ) و (أعطى له ديناراً ) كذلك الفعل وهَبَ ، نقول (وهبه حديقة ) ونقول (وهب له حديقة ) ، وقد قال القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى ( وهبْ لنا من لدنك رحمة ) وقوله أيضا ( ووهبنا له إسحاق ) ( الحمد لله الذي وهب لي ) ، وقوله تعالى ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) ، فإن كان الفعل يُلحق به (له) مرة ، و(منه) مرة عِوضاً عن مفعولٍ محذوف ، ففيم الاعتراض ؟
ومثل ذلك كثير ، فأحياناً يصرح بالمفعولين ، وأحيانا يذكر واحداً ويعوض عن الآخر بجار ومجرور
16 ـ يعترض على قوله عليه السلام ( ومن ضحَّى مع علم حقيقة ضحيته وصدق طويته وخلوص نيته فقد ضحى بنفسه ومهجته وأبنائه وحفدته فله أجر عظيم كأجر إبراهيم عند ربه الكريم ) ويعترض قائلاً : ( لماذا هذه المبالغة ؟)، ويستكثر على من تكون هذه حاله أن يكون له أجر كأجر إبراهيم ، والحق أن ذلك من قصور النظر والافتقار إلى جواهر المعارف ومقاصد الشريعة ، فما الفرق بين إبراهيم عليه السلام ـ الذي ضحى بنفسه مرةً حينما ألقوا به في سعير نار مشتعلة لإحراقه حيا ، وضحى بزوجته وابنه الوحيد وقذف بهما إلى صحراء موحشة بلا ماء ولا غذاء ، وأراد أن يضحيَ بابنه وحيده مرةً أخرى على الوجه الظاهر والتحقيق ، طاعة لربه والتماساً لرضاه ـ وبين من يفهم حقيقة الأضحية فيريق دم نفسه الأمارة مع إراقة دم أضحيته ، ويفهم أنه ليس المقصود في حد ذاته إراقة دم الضحايا من العجماوات بقدر ما هو مطلوب إراقة دم النفس الأمارة بالسوء ، ومعها دم إبليس والشيطان ، فلا يكون لأولئك عليه سلطان ، ولم يعد له إلا نفس لوامة على الوقوع في اللمم من الذنوب ، ونفس مطمئنة بما اطمأن فيها من إيمان وسكينةٍ مسلِّمةً منقادةً تسليمَ نفس إبراهيم عليه السلام وانقيادها ، وماذا إذن جدوى دعائنا بالهداية على غرار صراط المنعمين في كل صلاة ، إلَّم يكن الهدف من ذلك بلوغ مقام إبراهيم ومن سواه من المنعَمين ؟! لماذا يُغلق هؤلاء في وجوه الناس الأبواب التي فتحها الله تعالى على مصاريعها بدمٍ باردٍ ودون الإحساس أنهم يدعون ويروجون إلى ما لا ينفعهم ولا ينفع سائر الناس ، و يضرهم ويضر بسائر الناس ، بل يضر شرع الله وهديه والنبيين ؟
17 ـ يعترض على التفصيل الذي فصله المسيح الموعود عليه السلام في وصف من يتخذون العيد لهوا ولعبا وزينة وطعاما وشرابا زاهلين عن المعنى الحقيقيّ للأضحية ، والمعنى الحقيقيّ للعيد الذي هو السعادة البالغة بالجائزة التي ينالها العبد من ربه بعد ذبح نفسه الأمارة وهنائه بنفس مطمئنة لا تأمره إلا بخير
كيف لمن لديه ذرة من معرفة الله وأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يعترض على هذا التصوير البديع الذي لم تسمع به البشرية من قبل ؟ وإذا جوَّز لنفسه أن يعترض على تفصيل الوصف لمن يقضون يوم العيد على اختلاف مشاربهم وأحوالهم ومستوياتهم ، فله أيضاً أن يقدم نفس الاعتراض على الإطناب وتفصيل الوصف من الله تعالى في حق البشرية جميعا رحمانيةً منه في سورة النبأ ، ثم الإطناب والتفصيل في عقاب الطاغين ، ثم الإطناب وتفصيل ثواب المتقين ، كذلك ما ورد في سورة الواقعة في حق أصحاب اليمين ، وفي حق أصحاب الشمال ، وفي حق السابقين المقرَّبين ! سورة كاملة طويلة عريضة تعدد مآل تلك الفئات الثلاث فحسب
وليس هناك ما يمنع أن يستمتع الناس بيوم العيد مع معرفتهم بمغزاه ، وإدراكهم لمعناه ، وأن تكون سعادتهم واحتفالاتهم نابعة من شعورهم بمدى حب ربهم لهم ، وقربهم منه ونوال عطاءاته ، من قال أن المسيح الموعود ينتقد الإحساس بالفرح والسعادة والحبور ، ومن قال أننا ندعو فقط إلى الكآبة والتجهم والعبوس ؟
إن المسيح الموعود عليه السلام يدعو الناس إلى السعادة والاحتفالات التي تكون نابعة من تحقق الغاية العظمى التي يطمح إليها النبيون ، وليس سواها غاية الرسالات ، ولكن المعترض وأشياعه يقدمون للناس سعادة جوفاء خرساء عمياء صماء جدباء لا يُرتجَى منها زرع ولا ينزل عليها غيث السماء ، فرحةٌ آنيةٌ زائلةٌ يتبعها ندم وويل وثبور وعظائم الأمور ، وشتَّان
أتريد للعالم انحلالاً فوق الانحلال الذي يعيشه ، أتريد للعالم فوضى وخواء قيمياً وأخلاقياً فوق ما يعانيه ، أتريد أن تزداد الحياة تفاهةً فوق التفاهة التي ملأت الدنيا وغطت على كل قيمة ذات قيمة حتى أصبح العريُ (موضة) والاختلاط بين الجنسين (مدنية) وركوب كل جهالة (حداثة) والتخلي عن أي مضمون (حرية) ونبذ الأديان أصبح علامة على كل مدعي معرفة ، وكأن الأديان لم تنزل إلا للجهلاء الأغبياء ؟
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم !
18 ـ يعترض على كلمة ( الجهْلات ) التي هي جمع ( الجهْلة ) بدعوى أن الجهلة أمر معنوي ، والأمور المعنوية لا تكون معلومة بالتحديد لأنها غير ظاهرة للعيان ، وبالتالي كيف يُشتق منها ( اسم مرة ) ، وهذا شيء يستحيل عدُّه أو وضعه تحت التجربة ، ويسميها أفعالا باطنية أو قلبية ، أما أفعال الجوارح فهي المنوط بها اشتقاق اسم المرَّة منها ، وما قاله صحيح حتى حين
ذلك لأن الأفعال الباطنية أو القلبية التي ذكرها لو ظلت في إطار الباطن أو القلب فإننا نعتبر كلامه هذا صحيحا ، أما إن خرجت هذه الأفعال عن حدود الباطن أو القلب وخرجت إلى حيِّز التنفيذ والعلن ورآها الناس ولمسوها وتأثروا بها وأثروا فيها ، فإنها بذلك تكون قد خرجت عن القاعدة التي ذكرها هو ، وأصبحت أفعالا محسوسة ملموسة يتفاعل الناس معها وبها ، فمثلا إذا جال بخاطري أن أقتل أحداً ، فهذه لا تسمَّى جهْلة ، لأنها فكرة باطنية لم يطَّلع عليها أحد ، أما إذا قتلته بالفعل فليس هناك ما يمنع أن نسميَ هذا الفعل (جهْلة ) ويُجمع على (جهْلات) ، ويكون استعمال اسم مرة من هذا الفعل صحيحاً تماماً
وإليك ما قاله شاعر العربية لعل المعترض يقنع به إذ قال :
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا / فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إذن كيف يجهل عليهم الناس ؟ وكيف سيردون هم على جهلهم بجهل أيضاً ، أيكون الهجوم بالجهل باطنياً ، فتوعدوا هم أيضاً أن يردوا على جهلهم هذا بجهلٍ باطنيٍّ يفوق جهلَهم ؟
أجيبونا
ولا يخفى أن المسيح الموعود عليه السلام في هذا النص لا يتكلم عن خواطر باطنية ، أو أفعال قلبية ، وإنما كان يعدد سلوكيات كلها ظاهرة ، ويقوم بها الناس علانيةً ، والدنيا كلها عليهم شهود
فإذا قيل : ما دامت الأفعال التي كان ينتقدها المسيح الموعود كانت سلوكيات حسية ظاهرة ، وليست من قبيل الأفعال الباطنية ، فلماذا استخدم الفعل ( جهل) الذي هو دلالته باطنية ؟
نقول : إن المسيح الموعود عليه السلام يتلقى ألفاظ هذه الخطبة إلهاما من ربه ، فليس له من الأمر شيء ، والحق أنني أرى أن استخدام هذه اللفظة معجِزٌ مُبهر ، إذ إنها تدل على فعل ليس مبعثه من الظاهر ، ولم يكن الخاطر الذي دعا إليه خاطرا سطحياً ظاهرياً ، لا ، بل كان فعلا باطنيا ناشئا من رغبة قلبية عميقة متجذرةٍ في أعماق النفس ، ثم كان له من الهيمنة أو السيطرة ما جعله يطغى على إرادة صاحبه حتى خرج إلى العلن في صورة فعل محسوس مؤثرٍ ومتأثر ، وعلى ذلك فاختيار هذا اللفظ دقيق بارع لأنه اختيار الله الأعلى ، وهذا اللفظ يفيد أن السلوكيات التي كان ينتقدها في هؤلاء لم تكن قد صدرت منهم عفويا أو كانت وليدة اللحظة عديمة التأثير سطحية الشعور ، إنما كان يحدوها الإصرار ، وتغذيها الرغبة ، ويُحفزها أمل المتعة ، ذلك هو السبب الأسمى وراء اختيار هذا اللفظ الدقيق الذي يجمع بين الرغبة الحقيقية النابعة من الباطن ، والفعل العلنيّ الذي بين باطنه وظاهره رباط قويّ ، ذلك الذي لا يتوافر في الأفعال الأخرى التي لا تؤدي إلا المعنى الظاهريّ فقط ، والذي قد يكون لأصحابه المعاذير في ارتكابه لأنه لم يكن نابعاً من رغبة حقيقية مُلحة من سويداء قلوبهم ، خلافاً للأفعال الظاهرية تماماً ، فالإنسان قد يخرج ويدخل ويقوم ويقعد وينام ويصحو ، وغير ذلك دون أن يكون وراء تلك الأفعال عقد نية ، وتصميم نفس ، وأمنية قلب ، ورجاءات مُلِحّة
19 ـ يعترض على التعبير التالي : ( وسرْحَ النفوس في مراتع الشهوات ، والركوب على الأفراس والعجل والعناس ، والجِمال والبِغال ورقاب الناس ) ثم يتابع ويقول : (إذا كانت هذه الكلمة ( العَجَل) جمع عَجَلَة التي يجرها الثور ) ، فلا يصح عطفها على المركوبات الطبيعية أمثال الجمال والأفراس ، ويقول كيف تعطف الركوب على رقاب الناس على الركوب على الجِمال والبِغال وغيرها من المركوبات ؟ أما إن كانت الكلمة ( العِجل) فلماذا جاءت مفردة ، ولم تُجمع لكي يكون السياق متسقا ؟ لأن جميع الكلمات ما قبلها وما بعدها كان جمعاً
نبدأ أولاً باعتراضه على لفظة (العَجَل) ، التي هي في النص غير مشكَّلة ، وأرى أن في عدم تشكيلها فائدة عظيمة ، ليقرأها كل قارئ بالتشكيل الذي يراه مناسباً للمعنى الذي يكون أكثر وقعاً فيه هو ، والحق أن تلك الكلمة سوف تكون صحيحة تماماً مهما قُرئت بالتشكيلات المختلفة ، فتلك هي قمة الروعة في البيان المبهر الذي هو ظل لكلمات القرآن الكريم التي تُقرأ بقراءات مختلفة لتؤدي معاني متعددة بلفظ واحد
فمثلا لو شكَّلناها هكذا ( العَجَل) كما قرأها هو أول مرة ، لكان معناها السرعة والنشاط ، ويكون المعنى أن هؤلاء الناس يُقبلون على تلك الأعمال في عَجَلة وهمة ونشاط غير متكاسلين ولا متراخين ، وكأنهم قد حازوا كل العَجل والسرعة والهِمة وأصبحوا يركبونها ويطوعونها وِفق أهوائهم ، وقد باتت لهم منقادةً زليلة
أي تصويرٍ أروع !
وعلى نفس التشكيل السابق ( العَجَل) فهي جمع عجلة ، وهي التي يجرها الثيران ، وهي كلمة جمع ، ويكون مفاد اللفظ أنهم يركبون الركائب الطبيعية التي هي الجمال والأفراس واالبِغال ، وكذلك يركبون الركوبات المستحدثة على هيئة عجلات تجرها الثيران أو الخيول ، فلم يتركوا كل لون من ألوان المتع والزينة من الركائب لم يركبوها ، وربما دلَّ لفظ العَجَل هنا أيضا على السيارات الحديثة التي تعمل بالمحرك والوقود ، فكل ذلك يدخل تحت لفظ ( العَجَل)
أما إذا كان التشكيل هكذا (العُجُل) فهو جمع (عَجلى) أي سريعة ، ويكون المراد أنهم كانوا ينتقون ما يركبون ، ولم يكونوا يتركون ذلك للحظِّ والصدفة ، وإنما كانوا يجيدون اختيار ركوباتهم التي تحقق لهم الزينة ، وتوصلهم إلى غاياتهم من المتع بأقصى سرعةٍ ممكنة بلا توانٍ ، مما يوحي بنهمهم إلى الشهوات ، وتحكمها فيهم ، وإزلالها لهم
أما إذا افترضنا أن التشكيل هكذا ( العِجل) ويكون المراد به الثور ، لأن أصل تسمية العِجل بهذا الاسم ، هو التيمن أن يكبر ويشتد عوده ويكون عجولا أي سريعا في حركته ، ولكن المعترض قد اعترض على كونها مفرداً هنا ، ونقول له : أحيانا ومن قبيل روعة البيان وجودة الصياغة وبيان حوز النكات العربية الدقيقة يُستعمل هذا الأسلوب ، وهو أن يسرد المتكلم كلمات كلها جمع ، ثم يأتي فيها بكلمة مفرد ، ويكون ذلك من قبيل استعمال المفرد كاسم جنس ، واسم الجنس أعمُّ من المفرد وأعمُّ من الجمع وأعم من جمع الجمع أيضاً ، إذ إنه يحوي الجنس كله ، وكلمة العجل هنا قد أفادت جنس العجل كله ، وكأن المسيح الموعود يقول أنهم قد تمتعوا بجميع أنواع البهائم التي تجر العجلات ، فلم يتركوا عربة يجرها بغال أو أفراس أو ثيران أو ما هو فوق ذلك ، يشمل ذلك جنس العجل كله ، الذي هو الفتيّ السريع النشيط من أبناء البقر وغيرها
ومن هذا القبيل ورد قوله تعالى ( {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ [الطِّفْلِ ]الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (النور 31)
لك أن تتأمل قوله تعالى هنا [ أو الطفل ] الذي هو مفرد أُدرِج وسط جموع عديدة ، لتدرك البيان الذي شرحناه ، وتكون على يقين أن المعترض يركب أفراس شطحاته وتعجلاته دون أن يتبين ، وقد ظلم خلقا كثيرا أولهم نفسه
أما إذا كانت فرضيتنا الأخيرة أن يكون التشكيل هكذا ( العَجِل ) بفتح العين وكسر الجيم ، فيكون معناها السريع النشيط الذي لا تفتر سيقانه ولا تكِل قواه ، والذي لا يحتاج لمن يحثُّ على العدْو إنما السرعة والنشاط والتعجُّل صفاته الغالبة ، ذلك لأن تلك الصيغة من صِيَغ المبالغة ، وما أدراك ما المبالغة ؟!
20 ـ ثم يقول : ( وما الفرق بين الجِمال وبين العِناس؟) ، أرى أن ذلك جيد ، كان ينبغي أن يكون منهجه أن يَسأل فيُجاب ، لا أن يتهجَّم دون أن يَتبَيَّن ، والآن الجواب : الجِمال تفيد العموم والشمول ، فمنها الصحيح ومنها السقيم ، ومنها الشاب الفتيُّ البَكْر ، ومنها الذي شاخ وأكلته الأيام والليالي والحوادث ، ومنها الذكر ومنها الأنثى ، ومنها من كل شكل ولون وغثٍّ وسمين ، أما ( العِناس ) يا سيدي فليست إلا النوق الإناث الشابة الفتية القوية السريعة النشيطة التي هي على الأغلب لم يطأْها فحلٌ ولم تلد من قبل ، فما زالت محتفظةً بكامل حيويتها وطاقتها لم يُنتقَص من كل ذلك شيء ، وعلى ذلك فعموم الجِمال شيء والعِناس شيء آخر ولا يمكن التسوية بينهما
21 ـ أما اعتراضه على جملة ( الركوب على رقاب الناس ) فأعجب من سابقيه ، لأنه يبدو أن الرجل قد فهم أن المقصود هو رجال يركبون على رقاب الناس حقيقةً ، فترى الواحد منهم قد قفز على منكبيْ أحد الناس ، وأمسك برأسه ودلَّى ساقه اليمنى على يمين رأسه ، وساقَه اليسرى جهة اليسار ، كما يحمل الآباء أبناءهم في المجتمعات الريفية
إنما المقصود أن من يتخذ يوم العيد بيئةً نشِطةً لاستعراض المفاخر والمباهج والزينات والمُتع وركوب الخيل والإسراف في الطعام والشراب والغرق في الشهوات إنما هو قد ركب على رقاب الناس الذين لم تُنعِّمهم الحياة بما نعَّمتهم ، ولم تمكنهم مما مكَّنتهم ، ولم تكن يد القدر مبسوطة مع هؤلاء المحرومين ، بقدر ما كانت مبسوطة مع أولئك المبذرين ، هذا هو معنى الركوب على رقاب الناس يا سيدي ، وليس ما ذهبتَ إليه !
22 ـ ثم يعترض على الجملة التالية :( والتشوق إلى رقص البغايا وبوسهن وعناقهن وبعد هذا نِطاقهن ) ويقول : ( هل يليق أن تُحكَى هذه الكلمات ......... ؟
ونقول له : ليس من المنطق أن نتهم الجَراح الذي يقسم رأس المريض جزلتين ـ بُغية تخليصه من آلامه ، وطلباً لشفائه ـ قاسياً ـ ، وليس من الصواب اتهام ناقل الكفر أنه كافر ، وليس من الصواب وصم واصف الفسق أنه فاسق ، وإذا كانت هذه من المفاسد من التي يقع فيها الناس يوم العيد ، فمن مقتضى مراعاة الحال أن يُنبَّهوا إلى خطورتها يوم العيد ، وإلا فمتى ينهاهم عنها ، ويقبحها في أعينهم ؟ أليس من اللائق أن لكل مقام مقالاً ؟ ولكل حالٍ قالاً ؟!
أفيقوا يرحمكم الله
23 ـ يعترض على العبارة ( فأنا ذلك النور والمجدد المأمور والعبد المنصور والمهدي المعهود والمسيح الموعود ) يريد أن يتخذ من هذا النص دليلا أن (الرجل مجدد) على حد تعبيره ، والحق أنه حيَّرنا معه ، فإن كنت ترى أنه مجدد فكيف تتهمه بهذه الاتهامات التي لا تليق بمخرِّب ؟ ثم إنك رأيت لفظة (المجدد) ولم ترَ لفظة ( المسيح) الذي تواترت الأنباء أن مسيح آخر الزمان ( نبيُّ الله ) ، إذن هو مجدد ومهديٌّ ومسيحٌ على مقام النبوة ، نرجو مراجعة العبارة التي التقطتَ منها كلمة ( مجدد ) وأهملت بقيتها
ثم ، هل تريد الفصل التام بين النبوة والمجددية ؟ إذن أنت ترى أن كل نبيٍّ ليس مجدداً ، وهذا خلط ما بعده خلط ، إذ إن المسيح الموعود يقول أنه مجدد ، وأنه مهديّ ، وأنه مسيح ، لأن المهديَّ لو لم يأت بجديد ليكون (مجدداً ) فلماذا جاء ؟ ولأن المسيح لو لم يكن ما معه يفوق كل ما مع الناس ، فكيف يصح أن يُسمى مسيحاً ، فإن كان معه بضاعة جديدة أفلس الناس منها منذ أزمنة ، وأقفرت منها الأرض ، وأمسكت منها السماء ، وأُعيِيَت منها القرائح وكلَّت عنها الأفهام فكيف نُدعَى بين الناس مخطئين إن لقبناه (المجدد) ؟
إنكم تقلبون الموازين وتتعجبون من عدم دقة الميزان ، وتضعون العربة أمام الحصان ، وتتعجبون لماذا هي لا تسير ، وتنثرون البذور على الصخور الجرداء الصماء وتقولون : ما لها لا تنبت؟
24 ـ يعترض على جملة ( ولكن تحديثٌ لِنعم الله ) ويقول أنها كان من الواجب أن تكون ( تحديثٌ بنعم الله ) ، وما ذكره صحيح ، ولكن من وجهة النظر القاصرة ، ومن خلال رؤية العين العشواء ، ولعله لا يعرف قاعدة التضمين التي تذكر فعلا أو مصدراً وحرف جر متعلقاً بفعل أو مصدرٍ آخر ليجمع بين معنى الفعلين اختصارا وإيجازاً وبراعةً ، فالمراد أنه ( ولكن تحديثٌ بنعم الله لنوال المزيد من نعم الله ) فأتى بالمصدر ( تحديث) وأتى بحرف جر هو ( اللام ) التي هي في الأصل متعلقة بـمصدر آخر هو (النوال)
ومثال ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى ( كأساً يشرب بها عباد الله ) والكأس لا يُشرَبُ بها ، إنما يُشرَب منها ، ولكن المقصود أن يشرب (منها) حتى يرتوي (بها) ، فكأنه جمع بين الشرب والارتواء باستخدام حرف جر متعلق بفعلٍ آخر ، إنها روعة البيان التي يتهمها المتعجلون بالأغلاط والتخليط !
25 ـ يعترض على جملة ( ما كان حديث يُفترى ) ، ويقول أن الرجل لا يعرف قواعد العربية ، وأنه يخطئ في نصب خبر كان ، والعجيب أن المعترض قد اخترع (كان ) من عندياته ، فليس في هذه العبارة أيُّ ذكر لـ (كان) ، وبديهيٌّ أن يقول قائل : إن كاتب هذا المقال يدلِّس ، أو يسخر منا ، أو يستهزئ بنا ، ما له ينكر ما هو مرئيّ وثابت ، يقول : أين (كان) وها هي (كان) أمامه ، الحق أنني لم أقصد شيئا من ذلك أبداً ، فعلا ، هناك (كان) في الجملة ، لكنها ليست (كان) الناقصة الناسخة ، وهي التي يبدو أن المعترض لا يعرف في العربية (كان) غيرها ، فأخطأ خطأً فا حشاً أوقعه في خبر (كان)
إن (كان) التي في هذه العبارة هي (كان) التامة ، التي لا تحتاج إلى اسم يُرفع ، ولا خبر يُنصب ، بل هي التي تحتاج إلى فاعل يُرفع وحسب ، وهو في هذه الجملة (حديثٌ) ، فلو أردنا أن نعرب هذه الجملة كان الإعراب هكذا :
كان : فعل ماضٍ تام يدل على الكينونة ومعناه وُجد أو حدث
حديثٌ : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة
يُفترى : فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة للتعذّر وهو مبني للمجهول في محل رفع صفة لـ ( حديث )
ومثال ذلك من القرآن الكريم ، كذلك قوله تعالى ( وإن كان ذو عُسرة فنظِرة إلى ميسرة ) ، فهذه أيضا (كان) التامة وليست (كان) الناقصة الناسخة ، وهي هنا معناها ( وُجد ) ، كذلك في الحديث الشريف ( كان الله ولا شيء معه ) ، وهي أيضا معناها أنه كان كائنا ولم يكن شيء كائنا غيره ، كذلك قال الشاعر :
إذا كان الشتاء فأدفئوني / فإن الشيخ يهرمه الشتاءُ
كل ذلك وأكثر ما يؤكد وجود (كان) التامة ، وليست الناسخة التي ذهب إليها المعترض وملأ الدنيا ضجيجاً حول ما سماه أخطاءً فادحة
وإذا قيل كيف نجزم أن الفعل (كان) الوارد في هذه العبارة هو الفعل التام وليس الناقص ، خاصة أنه قد وردت آية قرآنية بنفس الألفاظ تقريبا وقد وردت (كان) الناقصة الناسخة وليست التامة ، نقول بعون من الله : إن الذي يحدد كون الفعل (كان) تاما أو ناقصا هو المعنى المراد ، والمعنى المراد هو الذي يُستنبَط من سياق الكلام ، وقد أوردت الآية القرآنية التي وردت فيها (كان) ناقصة ، لأن المقام مختلف ، والمقصود مختلف ، خلاف ما يقصده المسيح الموعود عليه السلام وعَناه من هذه العبارة ، وهو ما نوضحه في حينه بإذن الله
والأفعال الناقصة جميعاً تسمَّى أفعال التغير ، بمعنى أنها تدل على تغير الحال وتبدله ، فإن الرجل كان كذا فأصبح كذا فأمسى فبات فظل فما برح ولا زال ، إلى آخره ، فإن حال هذا الرجل لا يثبت ، فتلك الأفعال تدل على عدم الثبات ، والتغير والتبدل الدائم غير المستقر ، أما (كان) التامة فإنها تدل على الثبات ولا تدل على التغير ، فلا تحتاج بعدها إلى مبتدأ وخبر ، ليكونا اسمها وخبرها ، كما هو شأن (كان) الناسخة ، وذلك في الأمثلة السابقة والتالية أيضا ، ومنها : قوله تعالى ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله ) ، ولْنعرب جزءاً من هذه الآية :
تكون : فعل مضارع تام يفيد الكينونة معناه (توجد)
فتنة : فاعل مرفوع بضمة ظاهرة على آخره
هذه (كان) بلا اسم يُرفع ولا خبرٍ يُنصَب ، هي هي التي أوردها الله تعالى على لسان مسيحه الموعود ، وهي التي تدل على أن ما بعدها هو واقع الحال ، وليس حالاً متغيرا متبدلاً ليس له ثبات
أما الفرق بين الآية الواردة في القرآن الكريم ( ما كان حديثاً يُفترى) ، والعبارة الواردة في الخطبة الإلهامية ( ما كان حديث يُفترى ) فبيانه اختصاراً كالتالي :
ـ ( ما كان حديثاً يُفترى) (الآية القرآنية)تعني أن هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس حديثا كاذباً مُفتَرىً به على الله تعالى ، والكلام هنا يشير إلى حديث واحد بعينه
ـ (ما كان حديث يُفتَرَى) (العبارة في الخطبة)لم أكن لأكذب أبداً أو أفتري على الله أي حديث ، والكلام هنا يشير إلى أي حديث وليس حديثا محدداً
معذرة أخانا المعترض ، فقد نزلت الملعب الخطأ ، وتحديتَ الخَصم الخطأ ، إنه مسيح الله الموعود ، فأنَّى لك أن تنتصر ؟!
26 ـ يعترض على جملة ( ومضى من هذه المئة خمسها إلا قليل) ويقول ( قليل) مستثنى ، وكان يجب أن تكون منصوبة هكذا ( قليلا )
إن الجملة صحيحة تماماً ، ولم يمسها خطأ ، ولو كلف المعترض نفسه بالبحث والدراسة في قاعدة الاستثناء قليلا لأدرك القاعدة التالية : يُرفع المستثنى في أحوال عديدةٍ منها : في حالة الاستفهام الاستنكاري ، وهذا الاستفهام الاستنكاريّ هو الذي أهمله المعترض عن عمد ، ربما ، أو عن عدم علم ، ربما ، وهذا هو المذكور منذ بداية الفقرة التي ذُكرت فيها تلك الجملة التي يعترض عليها ، وهو :
أفأنتم تعجبون ؟! وإلى الزمان وضرورته لا تنظرون ؟! ألا ترون إلى زمان احتاج إلى الرب الفعال ؟!
هذا هو الاستفهام الاستنكاري الذي بدأت به تلك الفقرة وظل ساريا حتى نهايتها ماراً بهذه العبارة التي استوجب رفع مستثناها تبعا للقاعدة اللغوية التي يجهلها أو يتجاهلها المعترض
ومثاله في كتاب الله العظيم : (فهل يهلك إلا القومُ الظالمون )؟! ، فلم يُنصَب المستثنى بعد إلا لوجود الاستفهام الاستنكاري أيضاً
27 ـ يعترض على جملة ( لهذا الغِراس ) ويرى أنها كان من الواجب أن تكون (لهذه الغراس ) ، وذلك أيضا من قصور النظر ، لأنه أحيانا يُشار للمذكر باسم إشارة مذكر ليس بالنظر إلى اللفظ ، ولكن بالنظر إلى المعنى ، والمعنى المشار إليه هنا هو هكذا : لهذا الزرع ، أو ، لهذا الشجر ، وفي ذلك بيان طريف ، وهو أن الغِراس الذي يتكلم عنه المسيح الموعود لم يتوقف عند كونه غِراساً ، وإنما قد تجاوز هذه الحال ، ونما وأورق وأزهر وأثمر واشتدت سيقانه وأصبح زرعا وشجرا ، فكان الأبلغ ذكر ما آل إليه الغِراس ، وليس ذكر حاله الأولى التي ليس فيها أي مدح أو دليل على الترقّي ، لذلك كان لزاماً أن يتعامل مع المعنى ، وليس مع اللفظ الذي يتقاصر عن بلوغ المعنى المراد
ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى ( كلا إنه تذكرة ) ، فرغم أن التذكرة مؤنثة ، إلا أنه تعالى استخدم معها ضميرا مذكراً في (إنه) التي على اعتراض المعترض كان من الواجب أن تكون (إنها) ، ولكن!
28 ـ يعترض على تكرار لفظ (فرادَى) في هذا النص ( أيها الناس قوموا لله زرافاتٍ وفرادى فرادى) ويقول أنها مكرَّرة بلا أي مبرر
هذا الذي يدَّعيه خطأ تماماً ، لأنها ليست مكررة بلا مبرر كما يزعم ، إنما ذلك هو التوكيد اللفظيّ الذي يعرفه تلاميذ المدارس المبتدئين ، ومثاله في القرآن الكريم : (كلا إذا دُكّت الأرض دكّاً دكا ، وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) ، ربما اتهم القرآن أيضا بالتكرار بلا مبرر !
وهناك نكتة بيانية رائعة في هذه الجملة البديعة التي أراد المعترض أن يخلع عنها خُلعة الروعة ، فقدَّر الله أن يُثبت للعالمين أن هذا هو كلامه الرائق ، ونبعه الصافي ، وأن مسيحه صادق ، لأنه ألهمه بظل كتابه الفرقان ، وجعله يحوي ما حوى من نِكات البيان
إنه عليه السلام ـ بإلهام من ربه ـ يدعوا الناس أن يقوموا لله ويتبعوه ، فيقول لهم من الأفضل أن تقوموا جماعات لأن الخير في الجماعة ، أما إذا لم تكونوا من أصحاب الهمم العالية فلا بأس ، قوموا فرادى ، لكنه كرر (فُرادَى) لسببين ، الأول : أن يكون قيامهم فُرادى تباعاً ، أي أن يتبع بعضهم بعضا في تتابع كالسلسلة ، وبذلك يتحقق قيامهم جماعاتٍ بعد فترة وجيزة ، ويكون قيامهم فرادى متتابعين كأنهم قاموا جماعات ، والسبب الثاني : أنه إن كانوا لا محالة قائمين فُرادى فلْيبحث كل واحد منهم عن الحق منفرداً ، فلا يسألْ شيخا ، ولا يستأنس برأي من يظنون أنفسهم ويظنهم الناس علماء ، لأنه لو وقع في هذا الخطأ ، فسوف يخلد إلى الأرض ، ولن يفلح ، لذلك جاءت العبارة بتكرار كلمة (فرادى) مرتين للتأكيد على هذا المعنى
والحق أن هذا النقد الذي ينتقده المعترض للخطبة الإلهامية هو من سوء الطالع له ، لأنه أخفق أيما إخفاق ، وكشف ستر عورات عدم علمه ، وسطحية فهمه أيما كشف ، وأثبت أنه بتلك القراءة السطحية للمسيح الموعود عليه السلام كان لزاماً عليه أن يخرج من جماعته ، لأنه لم يأخذه بقوة
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين
وإلى لقاء في تناول الجزء الثاني من نقده للخطبة الإلهامية بعون من الله